الأقصى في رمضان- خداع الاحتلال وسيطرة مقنّعة

قد يتبادر إلى أذهان البعض أن موافقة الاحتلال على تسيير شؤون العبادة وأداء الصلوات في رحاب المسجد الأقصى المبارك خلال شهر رمضان الفضيل، تعكس استقرارًا للأوضاع في المسجد والمدينة المقدسة بشكل عام، أو قد يعتبرونها إنجازاً هاماً للمقدسيين وللشعب الفلسطيني قاطبة.
لكن الحقيقة أن هذا التصور يجانب الصواب ويفتقر إلى الدقة في فهم طبيعة وفلسفة الممارسات التي يقوم بها الاحتلال أساساً في المسجد الأقصى المبارك. فمجرد اتخاذ الاحتلال لقرارات تخص طبيعة الصلوات والعبادات في المسجد الأقصى، يشكل في جوهره مشكلةً جوهرية يجب معالجتها فوراً دون تأخير.
عند تحليل مفهوم الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك من منظور قانوني محض، ندرك أن الاحتلال لا ينبغي أن يكون له أي دور في إدارة شؤون المسجد الأقصى، لا من قريب ولا من بعيد. فالوضع القائم في المسجد يشير بصورة أساسية إلى الحفاظ على الأوضاع كما كانت عليه قبل الاحتلال الإسرائيلي للمسجد صباح يوم السابع من يونيو/حزيران عام 1967، وهو ما يستلزم حتمًا بقاء إدارة المسجد تحت سلطة دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن.
وقد حاولت إسرائيل تغيير هذا الواقع عقب الاحتلال مباشرةً، حين أرسلت وزارة الأديان الإسرائيلية آنذاك رسالةً إلى إدارة الأوقاف الإسلامية، مطالبةً إياها بتقديم قوائم بأسماء العاملين في المسجد، تمهيداً لتحويلهم إلى موظفين يتبعون مباشرةً لوزارة الأديان الإسرائيلية، بدلاً من وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية.
إلا أن علماء ومشايخ القدس، بقيادة الشيخ عبدالحميد السائح، رفضوا هذا الأمر رفضاً قاطعاً، بل إن الشيخ ومن معه امتنعوا عن فتح أبواب المسجد الأقصى واستئناف العبادة فيه تحت سيطرة سلطة الاحتلال، ورفع الشيخ السائح يومها شعاره الشهير الذي أصبح عنوانًا لمذكراته: "لا صلاة تحت الحِراب".
واجتمع جمع غفير من علماء المدينة المقدسة لتشكيل الهيئة الإسلامية العليا لإدارة شؤون المسلمين في المدينة، مما دفع سلطات الاحتلال إلى التراجع الفوري، خشية تكرار تجربة المجلس الإسلامي الأعلى في عهد الانتداب البريطاني، وأعادت شؤون المسجد الأقصى إلى دائرة الأوقاف كما كان الوضع سابقاً، وطبقت قانون الوضع القائم في المسجد.
إن الفكرة المحورية التي تكمن في الإجراءات التي اتخذها الشيخ السائح ومن معه في تلك المرحلة الحاسمة، تجسد رفضًا قاطعًا لفكرة فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى بأي صورة من الصور، وهذا هو الجانب الأهم في ذلك الحدث التاريخي.
فقد رأى الشيخ السائح في مجرد وجود إشراف إسرائيلي – ولو كان اسمياً – على المسجد الأقصى، تدخلاً سافراً في شؤون المسجد، وقبولاً ضمنياً بسيادة الاحتلال على المسجد والمدينة المقدسة، وهو الأمر الذي كان سيفتح الباب أمام الاحتلال لاحقاً لتغيير ما يشاء من إجراءات وقوانين وإدارات في المسجد، بما يجعله هو المتحكم الأوحد فيه مستقبلاً.
لذا استدعى الأمر التحرك الفوري لرفض هذا الإشراف بكل قوة وحزم، وكانت تلك رؤية إستراتيجية صائبة من الشيخ السائح وعلماء القدس في ذلك الوقت.
هذا تحديداً ما يسعى إليه الاحتلال خلال العقد الأخير، إذ يعمل بصورة مستمرة لإقحام نفسه في إدارة المسجد الأقصى على حساب دائرة الأوقاف الإسلامية، بحيث يقتصر دور الدائرة على إدارة الوجود الإسلامي في المسجد فحسب، وليس إدارة المسجد نفسه، وهو ما يعني انتقال السيادة على المسجد بشكل أو بآخر إلى إسرائيل في المستقبل، وهو ما يصبو إليه الاحتلال بكل ما أوتي من قوة.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، ينبغي النظر إلى التوصية التي قدمتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للمستوى السياسي قبيل بداية شهر رمضان المبارك، والتي تقضي بتحديد عدد المسلمين في صلوات الجمعة خلال الشهر الفضيل بعشرة آلاف مصلٍّ فقط.
فالغاية الخطيرة هنا يجب ألا تُفهم على أنها مجرد تحديد للعدد الذي اقترحته الأجهزة الأمنية، بل إن هذا الإعلان قد يهدف فعلياً إلى استطلاع رد الفعل الفلسطيني والعربي والإسلامي على هذا الرقم (العشرة آلاف)، ليقوم بعدها المستوى السياسي الإسرائيلي برفع العدد قليلاً، ليتم تصوير الأمر على أنه نصر للمقدسيين، وأنهم "انتزعوا" من الاحتلال عددًا أكبر يسمح لهم الاحتلال بأداء الصلاة في المسجد، وهنا مكمن الخطر وأساسه، لأنه يعني أن العقل الجمعي الفلسطيني سيكون في هذه الحالة قد أقر للاحتلال بسلطته في تحديد عدد المصلين المسموح لهم بأداء الصلاة في المسجد في شهر رمضان، أي التسليم للاحتلال بسيادته على الأقصى، بينما القضية الأساسية تكمن في أن الاحتلال لا يملك في الأصل أي سلطة لمنع أو السماح أو تحديد أعداد المصلين في المسجد الأقصى.
إن القضية في المسجد الأقصى لا تتعلق بالسماح أو عدم السماح للمصلين بالوصول إلى المسجد في رمضان لأداء الصلاة، أو بمسألة الأعداد المسموح لها بالصلاة، أو بالسماح أو عدم السماح بإقامة الاعتكافات داخل المسجد، بل إن القضية أعمق وأخطر من ذلك بكثير، وتتمحور حول ضرورة منع الاحتلال من فرض نفسه طرفًا في إدارة شؤون المسجد الأقصى.
وعليه، فإن مجرد تفكير الاحتلال في مسألة السماح للمسلمين بدخول المسجد أو منعهم منه، يجب أن يثير غضباً شعبياً عارماً ضد الاحتلال. فالصمت الذي رأيناه تجاه إجراءات الاحتلال المشابهة لهذا الإجراء على مدى السنوات الماضية، أدى إلى تخطي الاحتلال خطوطاً حمراء كثيرة جداً، حتى وصل به الأمر في شهر مايو/أيار الماضي إلى إعادة تعريف المسلمين في القدس، ليستثني منهم المسلمين البريطانيين ومسلمي جنوب إفريقيا، ويعتبرهم مجرد "سياح" يجب عليهم الدخول في أوقات الاقتحامات التي يقوم بها المستوطنون، ويمنعهم من دخول المسجد في أوقات صلوات المسلمين.
تهدف هذه الخطوات المتصاعدة من الاحتلال إلى تثبيت فكرة كونه صاحب القرار الأول والأخير في المسجد الأقصى، ليصبح في الواقع صاحب السيادة على المسجد، وليس دائرة الأوقاف الإسلامية.
كما تهدف هذه الإجراءات إلى ترويض المقدسيين وإخضاعهم للإجراءات الإسرائيلية، لتصبح هي الحاكم الأساسي في تحركاتهم نحو وداخل المسجد الأقصى، سواء في شهر رمضان أو غيره، ويعتبر الاحتلال شهر رمضان الحالي الفترة المثالية لترسيخ هذه الفكرة، نظراً لأنه يأتي في ظل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وبدء الحملة العسكرية الشرسة على الضفة الغربية.
ويأمل الاحتلال أن يكون قد نجح خلال العام والنصف المنصرم في بث الخوف واليأس في نفوس المقدسيين، ليدفعهم إلى تفضيل إقامة شعائرهم في المسجد الأقصى بسلامة وأمان نسبي، بغض النظر عن الكيفية أو الشروط.
وقد ساهمت الصدمة الناتجة عن البطش والوحشية الإسرائيلية التي زرعها الاحتلال خلال الحرب الأخيرة في وقف أي تحركات داخل المسجد الأقصى خلال شهر رمضان الماضي، وهو يريد أن يكون رمضان هذا العام بمثابة الاختبار النهائي لنتائج إجراءاته التي عمل عليها طوال السنوات الماضية، وخاصة خلال الحرب، ولذلك نجده يخفض سقف المطالب أمام المقدسيين إلى حدٍّ لا يطاق، ثم يرفع هذا السقف قليلاً ويصور الأمر على أنه إنجاز للمقدسيين.
وتكمن الكارثة في حال نجاح الاحتلال في تحقيق هذا الهدف، إذ سيكون قد أرسى نظرية "المُصلّي المهذب"، بحيث يربط إمكانية الدخول إلى المسجد الأقصى وأداء الصلاة فيه بمدى الصمت والهدوء المقدسي الشعبي تجاه إجراءات الاحتلال في الضفة وغزة وحتى في القدس، فهو بذلك يضرب عدة عصافير بحجر واحد، والدليل على ذلك هو حرص الاحتلال على استمرار اقتحامات المستوطنين بكثافة كبيرة في بداية شهر رمضان المبارك.
لا أهدف إلى التشاؤم هنا، ولكني في الحقيقة أسعى إلى لفت الأنظار إلى ما يكمن وراء أفعال الاحتلال وقراراته، وإلى عملية الخداع الإستراتيجي التي يمارسها على المقدسيين بشكل خاص والفلسطينيين بشكل عام، فالمسألة لم تكن أبدًا متعلقة بالأعداد التي يسمح بها الاحتلال، وإنما بوجود مبدأ السماح نفسه!
يمتلك الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس أعدادًا غفيرة تثير رعب الاحتلال، ولذلك فهو يحاول ترويضه لتقبل فكرة السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك، وفي اللحظة التي يشعر فيها الاحتلال بأنه قد نجح في هذا المسعى، فإنه بلا شك سيوجه ضربته القاضية باقتطاع جزء من المسجد الأقصى وإقامة كنيس داخله، وعندها سيكون العلاج أصعب بكثير من الوقاية.
الآن، الكرة في ملعب الشعب الفلسطيني الذي يمتلك سلاح العدد، فالجموع الفلسطينية التي استخدمت هذا السلاح بنجاح في العديد من الهبات الشعبية الكبرى على مدار السنوات العشر الماضية، قادرة على كسر إرادة الاحتلال وإذلاله مرة أخرى، وقد أثبتت تلك الأحداث مراراً وتكراراً أن الشعب الفلسطيني إذا أدرك حقيقة المؤامرة التي تحاك ضده وضد مقدساته، فإن تحركه لن يوقفه شيء.